عاشِقٌ ..
في غرفة العمليات !!
د.محمد بن عبد الرحمن العريفي
21/10/1425هـ
من السويد
رن جرس هاتفي يوماً .. اتصال من " السويد " ..
السلام عليكم .. الشيخ محمد ..؟!
وعليكم السلام .. نعم ..
يا شيخ .. أنا طبيب أحضر الدراسات العليا هنا في مالمو- السويد ، وأطبق منذ خمس سنوات في أحد المستشفيات السويدية ..
هنا يا شيخ في هذا المستشفى .. إذا جاءهم مريض مصاب بمرض خطير .. وكان المرض قد تمكن منه .. والفرصة في حياته قليلة ..
يضعون له مغذياً .. ويجعلون مع المغذي مادة مسكنة للألم ومادة أخرى قاتلة ..
فيبقى المريض يومين أو ثلاثة على الأكثر .. ثم يموت ..
فيستلمه أهله .. وهم يظنون أن وفاته طبيعية .. وهو في الحقيقة مقتول ..
قلت : أعوذ بالله .. هذا ..
فقاطعني قائلاً .. عفواً يا شيخ .. لم ينته السؤال بعد ..
اليوم يا شيخ كنت في قسم الطوارئ .. فجاء إلى المستشفى مريض مسلم .. سويدي من أصل باكستاني .. وهو يعاني من أحد الأمراض الخطيرة .. وقد تمكن المرض من جسمه .. أدخلوه قبل قليل إلى القسم الخاص بهؤلاء المرضى .. ووضعوا له المغذي القاتل ..
فماذا يجب عليَّ يا شيخ .. هل أخبر أهل المريض .. أم لا ..
ومضى صاحبي يبين لي عدد من قتلوا بهذه الطريقة .. ويتكلم عن مآسيهم .. و ..
كان عاطفياً .. ومتحمساً جدا ً .. مضى يقص ويقص ..
أما أنا فقد ذهبت بي الأفكار بعيداً ..
جعلت أتأمل .. ماذا تمثل الحياة بالنسبة لهؤلاء .. كأس .. وغانية .. وفراش ..
فإذا عجز أحدهم عن هذه الأمور لمرض أو ألم .. رأوا أنه لا حاجة لبقائه حياً .. فلماذا يعيش !! .. نعم لماذا يعيش ؟
وفرق بين من يأكل ليعيش .. ومن يعيش ليأكل ..
لا يدرون أن بقاءه حياً .. ولو مريضاً مقعداً .. يرفع الله به درجاته ..
فكل تسبيحة صدقة .. وكل تحميدة صدقة .. وكل تهليلة صدقة ..
كل ألم يصيبه .. حتى الشوكة يشاكها يكفر الله بها من خطاياه ..
وكم من شخص كان المرض بابه الذي دخل من خلاله إلى الجنة ..
فلا يزال البلاء بالمؤمن حتى يدعه يمشي على الأرض .. وليس عليه خطيئة ..
قال الإمام أحمد : لولا المصائب لقدمنا القيامة مفاليس ..
وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي قال( ما يصيب المؤمن من وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) ..
وقال : ( ولا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة )
الترمذي عن جابر قال : ( يود الناس يوم القيامة أن جلود كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء ) ..
عن أنس مرفوعاً( إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط ) ..
وأخرج مسلم أنه قال ( عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء فشكر الله فله أجر، وإن أصابته ضراء فصبر فله أجر، فكل قضاء الله للمسلم خير ) ..
فقبل أن أبحر في هذا الكتاب ..
أقول لكل مريض – مهما كن مرضه – ارض بما قسم الله لك ، واعلم أنك إن صبرت واحتسبت ، صار هذا المرض تكفيراً لخطيئتك .. ورفعة في درجتك ..
وأظهر الرضا والتسليم لكل من زارك ، ليعلموا أن لله عباداً يحبونه ، يرضون بقضائه ، ويصبرون على بلائه ، يباهي الله بهم أهل السماء ، ويجعلهم قدوة لأهل الأرض ..
أفلا تكون منهم !!
إنا وجدناه صابراً
كان أيوب عليه السلام .. صاحب مال وجاه وزوجات وأولاد ..
وكان رجلاً قد رفع الله قدره فجعله نبياً ..
في لحظة من ليل أو نهار .. فقد أهله وولده وماله .. ولم يبق معه إلا زوجة واحدة ..
ثم ازداد عليه البلاء .. فأصابه مرض عضال .. تعجب منه قومه ..
وخافوا من عدوى مرضه .. فأخرجوه من بينهم ..
فعاش في خيمة في الصحراء .. قد هدّه المرض .. وتقرّح جسده .. وعظم ضُرُّه ..
وتركه الناس فلم يقربوه ..
أما مرضه فقد سُئل المفسر مجاهد رحمه الله .. فقيل له :
ما المرض الذي أصاب أيوب .. أهو الجدري ؟
فقال : لا .. بل أعظم من الجدري .. كان يخرج في جسده كمثل ثدي المرأة .. ثم ينفقئ فيخرج منه القيح والصديد الكثير ..
وطالت سنين المرض بأيوب عليه السلام .. وهو جبل صامد ..
وفي يوم هادئ .. بكت زوجته عند رأسه .. فسألها : ما يبكيك ؟
قالت : تذكرت ما كنا فيه من عز وعيش .. ثم نظرت إلى حالنا اليوم .. فبكيت ..
فقال لها : أتذكرين العز الذي كنا فيه .. كم تمتعنا فيه من السنين ؟
قالت : سبعين سنة .. فقال : فكم مضى علينا في هذا البلاء ؟
قال : سبع سنين .. فقال : فاصبري حتى نكون في البلاء سبعين سنة .. كما تمتعنا في الرخاء سبعين .. ثم اجزعي بعد لك أو دعي ..
ومر عليه الزمان .. وهو يتقلب على فراش المرض .. لكنه كان بطلاً ..
نعم لو مررت به وهو مريض .. ولحم جسده يتساقط لرأيت أنك تمر بجبل صامد .. لا تزعزعه الأعاصير .. ولا تحركه الرياح ..
لسان ذاكر .. وقلب شاكر .. وجسد صابر .. وعين باكية .. ودعوة ماضية ..
لم يفرح الشيطان منه بجزع .. وفي ساعة من نهار .. مر قريباً منه رجلان .. فلما رأيا ضره ومرضه .. قال أحدهما للآخر : ما أظن الله ابتلى أيوب إلا بمعصية لا نعلمها ..
عندها رفع أيوب عليه السلام يده ..
و.. ( نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ..
فلما نظر الله إليه .. نظر إلى عينين باكيتين .. ما نظرت إلى حرام ..
ويدين داعيتين .. ما لمست حراماً .. ولا امتدت إلى حرام ..
ولسان حامد .. ورأس راكع ساجد ..
عندها هزت دعواته أبواب السماء فقال الله : ( فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ) ..
وأثنى الله عليه فقال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ..
وما أجمل أن ينظر الله إليك أنت في مرضك .. فيراك صابراً محتسباً فترتفع إلى درجة ( نعم العبد ) ..
عروة بن الزبير !!
عروة بن الزبير كان من كبار التابعين ..
فهو ابن الصحابي الجليل الزبير بن العوام ..
أصيبت رجله بالآكلة .. فجعلت عظامه تتآكل ويسقط عنها اللحم ..
فرآه الأطباء .. فقرروا قطع رجله حتى لا يمتد المرض إلى بقية جسده ..
فلما بدؤوا يقطعونها أغمي عليه ..
فقطعوها .. وألقوها جانباً .. فبدأ نزيف الدم يشتد عليه ..
فغلوا زيتاً ثم غمسوا عروق الرجل فيه حتى توقف الدم ..
ثم لفوا على الرجل خرقة .. وانتظروا عند رأسه
فلما أفاق .. نظر إلى رجله المقطوعة ملقية في طست .. تسبح في دمائها ..
فقال : إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم ..
فبدأ الناس يدخلون عليه ويعزونه في رجله .. ويصبرونه على مصابه ..
فلما أكثروا عليه الكلام .. رفع بصره إلى السماء ..
وقال : اللهم كان لي أطراف أربعة ..فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة .. فلك الحمد إذ لم تأخذ ثلاثة وتترك واحداً .. اللهم ولئن ابتليت فلطالما عافيت، ولئن أخذت لطالما أبقيت
وكان حوله أولاده السبعة .. يخدمونه .. ويسلونه ..
فدخل أحدهم إلى أصطبل الخيول لحاجة .. فمر وراء حصان عسيف فثار الحصان وضرب الغلام بحافره .. فأصابت الضربة أسفل بطنه .. فمات ..
ففزع من حوله إليه .. وحملوه ..
فلما غُسل وكفن .. جاء أبوه يتكئ على عكاز ليصلي عليه ..
فلما رآه قال : اللهم إنه كان لي بنون سبعة .. فأخذت واحداً وأبقيت ستة .. فلك الحمد إذ لم تأخذ ستة وتترك واحداً ..
اللهم ولئن ابتليت فلطالما عافيت، ولئن أخذت لطالما أبقيت ..
فما أجمل هذا الرضا ..
كم من الناس يمرض بطنه فيجزع ويصيح .. وينسى سلامة رأسه ورجله ..
وكم منهم من تمرض عينه .. فينسى سلامة لسانه وأذنه ..
فاحمد الله على أن ابتلاك بمرض واحد .. ولم يجمع عليك عشرة أمراض ..
والتفت إلى من حولك من المرضى واحمد الله الذي عافاك مما ابتلاهم به ، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً ..
لا .. ولا يكفينا منك ذلك ، فالمؤمل فيك أكثر ..
نريد منك أن تكون مهدياً هادياً .. صابراً مصبّراً .. لا ترى مريضاً منكسراً إلا جبرته .. ولا حزيناً إلا أفرحته .. ولا متشكياً إلا وعظته ..
فتكون – وأنت مريض – منار خير لغيرك .. وأنت أهل لذلك بإذن الله ..
للمرض سببان !!
صاحبي كان مشهوراً بقراءة الرقية الشرعية على المصابين بالأمراض النفسية .. وربما قرأها على المصابين بالسحر والعين ..
قال لي :
جاءني يوماً أحد كبار التجار .. يشكو ألماً شديداً في يده اليسرى ..
كان واضحاً أن الألم شديد .. وجه شاحب .. وعينان زائغتان ..
جلس بين يدي بكل كلفة ثم قال : يا شيخ اقرأ علي !!
قلت : مم تشكو ؟!
قال : ألم شديد .. لا أعرف سببه .. راجعت الأطباء .. المستشفيات .. التحاليل .. كل شيء سليم .. لا أدري ما أصابني .. لعلها عين سبقت إليَّ ..
قرأت عليه الرقية .. ودعوت له ..
وجاءني في اليوم الثاني وقرأت ودعوت ..
واليوم الثالث كذلك .. والرابع .. وطالت الأيام .. والمرض لا يزداد إلا شدة ..
فصارحته يوماً : يا فلان .. قد يكون ما أصابك بسبب دعوة من مظلوم آذيته في ماله أو نفسه أو عرضه .. أو ..
فتغير وجهه وصرخ بي : أظلم !! أظلم ماذا .. أنا رجل شريف .. أنا .. أنا ..
هدأت من غضبه .. واعتذرت ..
ثم خرج ..
جاءني بعد عشرة أيام .. فإذا هو في صحة تامة .. أصرّ على أن يقبل رأسي ويدي .. ثم قال : أنت والله سبب شفائي بعد توفيق الله ..
قلت : كيف .. والقراءة لم تنفع معك ..
قال : لما خرجت من عندك جعل الألم يزداد .. وجعلت كلماتك ترن في أذني .. نعم قد أكون ظلمت أحداً أو آذيته ..
فتذكرت أني لما أردت أن أبني قصري .. كان هناك أرض ملاصقة له فأردت شراءها لأجعلها حديقة للقصر .. وكانت الأرض ملكاً لأيتام وأمهم ..
أرسلت إليها أطلب شراء الأرض .. فرفضت .. وقالت : وماذا أفعل بالمال إذا بعتها .. بل دعوا الأرض على حالها .. حتى يكبر الأولاد ثم يتصرفون بها ..
حاولت إقناعها .. أغريتها بالمال .. فأبت ..
لكن الأرض كانت نهمة بالنسبة إليّ ..
قلت : فماذا فعلت ؟
قال : أخذت الأرض - بطرقي الخاصة - .. واستخرجت لها إذن بناء من الجهات المختصة – أيضاً بطرقي الخاصة - .. وبنيتها ..
قلت : والمرأة ؟ والأيتام ؟
بلغها الخبر .. فكانت تأتي وتنظر إلى العمال يشتغلون في أرضها .. وتسبهم وتبكي .. وهم يظنونها مجنونة .. فلا يلتفتون إليها ..
وأذكر أنها كانت ترفع يديها وتدعو وهي تبكي ..
ومنذ ذلك الحين بدأت في يدي آلام لا أنام منها في الليل .. ولا أرتاح في النهار ..
قلت : طيب .. وماذا فعلت لها ؟
قال : ذهبت إليها .. واعتذرت منها .. وبكيت .. وأعطيتها أرضاً في موقع آخر أحسن من الأرض الأولى .. فرضيت ودعت لي واستغفرت ..
وخرجت من عندها .. ولجأت إلى الله بالدعاء وطلب المغفرة .. حتى بدأ الألم يتلاشى شيئاً فشيئاً .. حتى زال ولله الحمد ..
انتهت القصة ..
ولا أعني بإيرادي لها أن كل مرض يقع فهو عقوبة من الله لعبده .. كلا فلقد مرض النبيون والصالحون ..
ولكن الذي أعنيه أن المرض يخرج الله به من العبد الكبر والعجب والفخر ..
فلو دامت للعبد جميع أحواله .. مال .. جاه .. صحة .. أولاد .. لتجاوز وطغى .. ونسي المبدأ والمنتهى ..
ولكن الله يسلط عليه الأمراض والأسقام .. فيجوع كرهاً ويمرض كرهاً ..
ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً .. ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ..
أحياناً يريد أن يفهم الشيء فيجهله .. ويريد أن يتذكر الشيء فينساه ..
وأحياناً يشتهي الشيء وفيه هلاكه .. ويكره الشيء وفيه حياته .. بل لا يأمن في أي لحظة من ليل أو نهار أن يسلبه الله ما أعطاه من سمعه وبصره ..
أو من يدري !! ربما اختلس الله عقله .. أو سلب منه جميع نعمه ..
فأي أحد من أذل العبد المتكبر لو عرف نفسه !!
ومن هنا سلط الله على العبد الأمراض والآفات .. لينكسر ويقبل على الله ..
وهذا هو السر في استجابة دعوة هؤلاء : المريض .. والمظلوم .. والمسافر .. والصائم .. وذلك لقربهم من الله وانكسار قلوبهم فغربة المسافر .. وتعب الصائم .. وذل المظلوم .. وآلام المريض ..
فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه ..
جولة في .. مستشفى المجانين
كنت في رحلة إلى أحد البلدان لإلقاء عدد من المحاضرات ..
كان ذلك البلد مشهوراً بوجود مستشفى كبير للأمراض العقلية ..أو كما يسميه الناس مستشفى المجانين ..
ألقيت محاضرتين صباحاً .. وخرجت وقد بقي على أذان الظهر ساعة ..
كان معي عبد العزيز .. رجل من أبرز الدعاة ..
التفت إليه ونحن في السيارة .. قلت : عبد العزيز .. هناك مكان أود أن أذهب إليه ما دام في الوقت متسع ..
قال : أين ؟ صاحبك الشيخ عبد الله .. مسافر .. والدكتور أحمد اتصلت به ولم يجب .. أو تريد أن نمر المكتبة التراثية .. أو ..
قلت : كلا .. بل : مستشفى الأمراض العقلية ..
قال : المجانين !! قلت : المجانين ..
فضحك وقال مازحاً : لماذا .. تريد أن تتأكد من عقلك ..
قلت : لا .. ولكن نستفيد .. نعتبر .. نعرف نعمة الله علينا ..
سكت عبد العزيز يفكر في حالهم .. شعرت أنه حزين .. كان عبد العزيز عاطفياً أكثر من اللازم ..
أخذني بسيارته إلى هناك ..
أقبلنا على مبنى كالمغارة..الأشجار تحيط به من كل جانب..كانت الكآبة ظاهرة عليه..
قابلنا أحد الأطباء .. رحب بنا ثم أخذنا في جولة في المستشفى ..
أخذ الطبيب يحدثنا عن مآسيهم .. ثم قال :
وليس الخبر كالمعاينة ..
دلف بنا إلى أحد الممرات .. سمعت أصواتاً هنا وهناك ..
كانت غرف المرضى موزعة على جانبي الممر ..
مررنا بغرفة عن يميننا .. نظرت داخلها فإذا أكثر من عشرة أسرة فارغة .. إلا واحداً منها قد انبطح عليه رجل ينتفض بيديه ورجليه ..
التفتُّ إلى الطبيب وسألته : ما هذا !!
قال : هذا مجنون .. ويصاب بنوبات صرع .. تصيبه كل خمس أو ست ساعات ..
قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله .. منذ متى وهو على هذا الحال ؟
قال :منذ أكثر من عشر سنوات ..كتمت عبرة في نفسي .. ومضيت ساكتاً ..
بعد خطوات مشيناها .. مررنا على غرفة أخرى .. بابها مغلق .. وفي الباب فتحة يطل من خلالها رجل من الغرفة .. ويشير لنا إشارات غير مفهومة ..
حاولت أن أسرق النظر داخل الغرفة .. فإذا جدرانها وأرضها باللون البني ..
سألت الطبيب : ما هذا ؟!! قال : مجنون ..
شعرت أنه يسخر من سؤالي .. فقلت : أدري أنه مجنون .. لو كان عاقلاً لما رأيناه هنا .. لكن ما قصته ؟
فقال : هذا الرجل إذا رأى جداراً .. ثار وأقبل يضربه بيده .. وتارة يضربه برجله .. وأحياناً برأسه ..
فيوماً تتكسر أصابعه .. ويوماً تكسر رجله .. ويوماً يشج رأسه .. ويوماً .. ولم نستطع علاجه .. فحبسناه في غرفة كما ترى .. جدرانها وأرضها مبطنة بالإسفنج .. فيضرب كما يشاء .. ثم سكت الطبيب .. ومضى أمامنا ماشياً ..
أما أنا وصاحبي عبد العزيز .. فظللنا واقفين نتمتم : الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به
ثم مضينا نسير بين غرف المرضى ..
حتى مررنا على غرفة ليس فيها أسرة .. وإنما فيها أكثر من ثلاثين رجلاً .. كل واحد منهم على حال .. هذا يؤذن .. وهذا يغني .. وهذا يتلفت .. وهذا يرقص ..
وإذا من بينهم ثلاثة قد أُجلسوا على كراسي .. وربطت أيديهم وأرجلهم .. وهم يتلفتون حولهم .. ويحاولون التفلت فلا يستطيعون ..
تعجبت وسألت الطبيب : ما هؤلاء ؟ ولماذا ربطتموهم دون الباقين ؟
فقال : هؤلاء إذا رأوا شيئاً أمامهم اعتدوا عليه .. يكسرون النوافذ .. والمكيفات .. والأبواب ..
لذلك نحن نربطهم على هذا الحال .. من الصباح إلى المساء ..
قلت وأنا أدافع عبرتي : منذ متى وهم على هذا الحال ؟
قال : هذا منذ عشر سنوات .. وهذا منذ سبع .. وهذا جديد .. لم يمض له إلا خمس سنين !!
خرجت من غرفتهم .. وأنا أتفكر في حالهم .. وأحمد الله الذي عافاني مما ابتلاهم ..
سألته : أين باب الخروج من المستشفى ؟
قال : بقي غرفة واحدة .. لعل فيها عبرة جديدة .. تعال ..
وأخذ بيدي إلى غرفة كبيرة .. فتح الباب ودخل .. وجرني معه ..
كان ما في الغرفة شبيهاً بما رأيته في غرفة سابقة .. مجموعة من المرضى .. كل منهم على حال .. راقص .. ونائم ..
و .. و .. عجباً ماذا أرى ؟؟
رجل جاوز عمره الخمسين .. اشتعل رأسه شيباً .. وجلس على الأرض القرفصاء .. قد جمع جسمه بعضه على بعض .. ينظر إلينا بعينين زائغتين .. يتلفت بفزع ..
كل هذا طبيعي ..
لكن الشيء الغريب الذي جعلني أفزع .. بل أثور .. هو أن الرجل كان عارياً تماماً ليس عليه من اللباس ولا ما يستر العورة المغلظة ..
تغير وجهي .. وامتقع لوني .. والتفت إلى الطبيب فوراً .. فلما رأى حمرة عيني ..
قال لي .. هدئ من غضبك .. سأشرح لك حاله ..
هذا الرجل كلما ألبسناه ثوباً عضه بأسنانه وقطعه .. وحاول بلعه .. وقد نلبسه في اليوم الواحد أكثر من عشرة ثياب .. وكلها على مثل هذا الحال ..
فتركناه هكذا صيفاً وشتاءً .. والذين حوله مجانين لا يعقلون حاله ..
خرجت من هذه الغرفة .. ولم أستطع أن أتحمل أكثر .. قلت للطبيب : دلني على الباب .. للخروج ..
قال : بقي بعض الأقسام ..
قلت : يكفي ما رأيناه ..
مشى الطبيب ومشيت بجانبه .. وجعل يمر في طريقه بغرف المرضى .. ونحن ساكتان ..
وفجأة التفت إليّ وكأنه تذكر شيئاً نسيه .. وقال :
يا شيخ .. هنا رجل من كبار التجار .. يملك مئات الملايين .. أصابه لوثة عقلية فأتى به أولاده وألقوه هنا منذ سنتين ..
وهنا رجل آخر كان مهندساً في شركة .. وثالث كان ..
ومضى الطبيب يحدثني بأقوام ذلوا بعد عز .. وآخرين افتقروا بعد غنى .. و ..
أخذت أمشي بين غرف المرضى متفكراً ..
سبحان من قسم الأرزاق بين عباده ..
يعطي من يشاء .. ويمنع من يشاء ..
قد يرزق الرجل مالاً وحسباً ونسباً ومنصباً .. لكنه يأخذ منه العقل .. فتجده من أكثر الناس مالاً .. وأقواهم جسداً .. لكنه مسجون في مستشفى المجانين ..
وقد يرزق آخر حسباً رفيعاً .. ومالاً وفيراً .. وعقلاً كبيراً .. لكنه يسلب منه الصحة .. فتجده مقعداً على سريره .. عشرين أو ثلاثين سنة .. ما أغنى عنه ماله وحسبه ..!!
ومن الناس من يؤتيه الله صحة وقوة وعقلاً .. لكنه يمنعه المال فتراه يشتغل حمال أمتعة في سوق أو تراه معدماً فقيراً يتنقل بين الحرف المتواضعة لا يكاد يجد ما يسد به رمقه ..
ومن الناس من يؤتيه .. ويحرمه .. وربك يخلق ما يشاء ويختار .. ما كان لهم الخيرة ..
فكان حرياً بكل مبتلى أن يعرف هدايا الله إليه قبل أن يعد مصائبه عليه .. فإن حرمك المال فقد أعطاك الصحة .. وإن حرمك منها .. فقد أعطاك العقل .. فإن فاتك .. فقد أعطاك الإسلام .. هنيئاً لك أن تعيش عليه وتموت عليه ..
فقل بملء فيك الآن بأعلى صوتك : الحممممممد لله ..
حلاوة الجزاء
قال أبو إبراهيم ..
كنت أمشي في صحراء .. فضللت الطريق .. فوقفت على خيمة قديمة ..
فنظرت فيها فإذا رجل جالس على الأرض .. بكل هدوء ..
وإذا هو قد قطعت يداه .. وإذا هو أعمى .. وليس عنده أحد من أهل بيته .. رأيته يتمتم بكلمات ..
اقتربت منه وإذا هو يردد قائلاً : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً .. الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ..
فعجبت من كلامه وجعلت أنظر إلى حاله ..
فإذا هو قد ذهبت أكثر حواسه .. وإذا هو مقطوع اليدين .. أعمى العينين ..
وإذا هو لا يملك لنفسه شيئاً ..
نظرت حوله .. أبحث عن ولد يخدمه .. أو زوجة تؤانسه .. لم أر أحداً ..
أقبلت إليه أمضي .. شعر بحركتي .. فسأل : من ؟ من ؟
قلت : السلام عليكم .. أنا رجل ضللت الطريق .. ووقفت على خيمتك ..
وأنت الذي من أنت ؟ ولماذا تسكن وحدك في هذا المكان ؟ أين أهلك ؟ ولدك ؟ أقاربك ؟
فقال : أنا رجل مريض .. وقد تركني الناس .. وتوفي أكثر أهلي ..
قلت : لكني سمعتك تردد : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ..!! فبالله عليك ! فضلك بماذا ؟!! وأنت أعمى .. فقير .. مقطوع اليدين .. وحيد ..
فقال : سأحدثك عن ذلك .. ولكن سأطلب منك حاجة .. أتقضيها لي ؟
قلت : أجبني .. وأقضي حاجتك ..
فقال : أنت تراني قد ابتلاني الله بأنواع من البلاء .. ولكن : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً ..
أليس الله قد أعطاني عقلاً ؟ أفهم به .. وأتصرف وأفكر ..
قلت : بلى .. قال : فكم يوجد من الناس مجانين ؟
قلت : كثييييير .. قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..
أليس الله قد أعطاني سمعاً ؟ أسمع به أذان الصلاة .. وأعقل به الكلام .. وأعلم ما يدور حولي ؟ قلت : بلى ..
قال : فكم يوجد من الناس .. صمٌ لا يسمعون ؟ قلت : كثيييير ..
قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..
أليس الله قد أعطاني لساناً ؟ أذكر به ربي .. وأبين به حاجتي ..
قلت : بلى .. قال : فكم يوجد من الناس بكمٌ .. لا يتكلمون ؟
قلت : كثيييير .. قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..
أليس الله قد جعلني مسلماً .. أعبد ربي .. وأحتسب عنده أجري .. وأصبر على مصيبتي ؟؟ قلت : بلى ..
قال : فكم يوجد من الناس من عباد الأصنام والصلبان .. وهم مرضى .. قد خسروا الدنيا والآخرة ..؟!!
قلت : كثيييير .. قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ..
ومضى الشيخ يعدد نعم الله عليه .. وأنا أزداد عجباً من قوة إيمانه .. وشدة يقينه .. ورضاه بما أعطاه الله ..
كم من المرضى غيره .. ممن لم يبتلوا ولا بربع بلائه ..ممن شلهم المرض .. أو فقدوا أسماعهم أو أبصارهم ..أو فقدوا بعض أعضائهم ..ويعتبرون أصحاء لو قارناهم به ..
ومع ذلك .. عندهم من الجزع والتشكي .. والعويل والبكاء ..
بل وضعف الصبر وقلة اليقين بالأجر .. ما لو قسم على أمة لوسعهم ..
سبحت بتفكيري بعيييداً .. ولم يقطعه علي إلا قول الشيخ ..
هاه ..!! أأذكر حاجتي ..؟ هل تقضيها .. ؟ قلت : نعم .. ما حاجتك ؟!
فخفض رأسه قليلاً .. ثم رفعه وهو يغص بعبرته وقال :
لم يبق معي من أهلي إلا غلام لي .. عمره أربع عشرة سنة ..
هو الذي يطعمني ويسقيني .. ويوضئني .. ويقوم على كل شأني ..
وقد خرج البارحة يلتمس لي طعاماً .. ولم يرجع إلى الآن .. ولا أدري .. أهو حي يُرجى .. أم ميت ينسى ..
وأنا كما ترى .. شيخ كبير أعمى .. لا أستطيع البحث عنه ..
فسألته عن وصف الغلام .. فأخبرني ..فوعدته خيراً ..
ثم خرجت من عنده .. وأنا لا أدري كيف أبحث عن الغلام .. وإلى أي جهة أتوجه ؟!
فبينما أنا أسير .. ألتمس أحداً من الناس أسأله عنه ..
إذ لفت نظري قريباً من خيمة الشيخ جبل صغير .. عليه سرب غربان قد اجتمعت على شيء .. فوقع في نفسي أنها لم تجتمع إلا على جيفة أو طعام منثور ..
فصعدت الجبل .. وأقبلت إلى تلك الطيور فتفرقت ..
فلما نظرت إلى مكان تجمعها .. فإذا الغلام الصغير ميت مقطع الجسد .. وكأن ذئباً قد عدا عليه .. وأكله ثم ترك باقيه للطيور ..
لم أحزن على الغلام بقدر حزني على الشيخ ..
نزلت من الجبل .. أجر خطاي .. وأنا بين حزن وحيرة .. هل أذهب وأترك الشيخ يواجه مصيره وحده .. أم أرجع إليه وأحدثه بخير ولده ..؟!
توجهت نحو خيمة الشيخ .. بدأت أسمع تبيحه وتهليله ..
كنت متحيراً .. ماذا أقول .. وبماذا أبدأ ..
مرّ في ذاكرتي قصة نبي الله أيوب عليه السلام ..فدخلت على الشيخ .. وجدته كسيراً كما تركته ..سلمت عليه .. كان المسكين متلهفاً لرؤية ولده .. بادرني قائلاً :
أين الغلام ..
قلت : أجبني أولاً .. أيهما أحب إلى الله تعالى أنت أم أيوب عليه السلام ؟
قال : بل أيوب عليه السلام أحب إلى الله ..
قلت : فأيكما أعظم بلاءً .. أنت أم أيوب عليه السلام ؟
قال : بل أيوب ..
قلت إذن فاحتسب ولدك عند الله .. قد وجدته ميتاً في سفح الجبل .. وقد عدت الذئاب على جثته فأكلته ..فشهق الشيخ .. ثم شهق .. وجعل يردد .. لا إله إلا الله ..
وأنا أخفف عنه وأصبره ..ثم اشتد شهيقه .. حتى انكببت عليه ألقنه الشهادة ..
ثم مات بين يدي ..غطيته بلحاف كان تحته ..
ثم خرجت أبحث عن أحد يساعدني في القيام بشأنه ..
فرأيت ثلاثة رجال على دوابهم .. كأنهم مسافرين .. فدعوتهم .. فأقبلوا إليّ ..
فقلت : هل لكم في أجر ساقه الله إليكم .. هنا رجل من المسلمين مات .. وليس عنده من يقوم به .. هل لكم أن نتعاون على تغسيله وتكفينه ودفنه ..
قالوا : نعم ..
فدخلوا إلى الخيمة وأقبلوا عليه ليحملوه .. فلما كشفوا عن وجهه ..
تصايحوا : أبو قلابة .. أبو قلابة ..
وإذا أبو قلابة .. شيخ من علمائهم .. دار عليه الزمان دورته .. وتكالبت عليه البلايا .. حتى انفرد عن الناس في خيمة بالية ..
قمنا بواجبه علينا .. ودفناه .. وارتحلت معهم إلى المدينة ..
فلما نمت تلك الليلة .. رأيت أبا قلابة في هيئة حسنة .. عليه ثياب بيض .. وقد اكتملت صورته .. وهو يتمشى في أرض خضراء ..
سألته : يا أبا قلابة .. ما صيرك إلى ما أرى ؟!
فقال : قد أدخلني ربي الجنة .. وقيل لي فيها ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) ..( القصة بتصرف يسير من السير للذهبي ) ..
وقفة مع .. عيادة المريض
لماذا نعود المريض ؟
لأجل ماله ؟ كلا .. فمن يعود الفقراء !!
لأجل قوته ؟ كلا .. فمن يعود الضعفاء !! أم لحسبه ونسبه وجماله ؟
كل هذه أسباب لا يَلْتفت إليها المخلصون .. وإنما نعوده لأجل الأجر والثواب ، والوقوف مع إخواننا المسلمين في كرباتهم ..
عن ثوبان أنه قال : ( من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة ) قيل يا رسول الله: وما خرفة الجنة ؟ قال جناها ) .. رواه مسلم ..
وعن علي أنه قال : ( ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة ‘‘الثمر المخروف أو المجتنى’’ ) .. رواه الترمذي وحسنه ..
وعن أم سلمة قال ( إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ) ..رواه مسلم ..
وعن عائشة أن رسول الله كان إذا أتى مريضاً أو أتي به إليه قال : ( أذهب الباس، رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً ) .. متفق عليه ..
مريض البرسام
أحمد كان غلاماً صغيراً في حجر والده ..
ما تراه إلا ضاحكاً أو لاعباً .. أصابه ألم في رأسه .. صبر عليه .. ثم اشتد عليه الألم ..
حاولوا علاجه بشتى الطرق فلم يفلحوا ..
بدأ رأسه يكبر وينتفخ شيئاً فشيئاً .. وصار ما بين جلد رأسه وعظمه .. قيح وصديد .. لا يدرون له علاجاً ..
حتى ثقل رأسه وغاب عن وعيه ..
طرحوه على فراشه .. في بيت قديم .. جدرانه طين .. وسقفه من جذوع النخل ..
ينتظرون موته .. مضت عليه أيام وهو على هذا الحال .. لا يكاد يتحرك ..
وفي ليلة مظلمة .. كان السراج يشتعل معلقاً في سقف الغرفة ..
وأخوه جالس عند رأسه يترقب ..
وفجأة إذا بعقرب سوداء تخرج من بين أخشاب السقف .. وتمشي على الجدار وكأنها متوجهة نحو أحمد ..
كان أخوه يراها .. لكنه لم يتحمس لدفعها عنه .. فلعلها أن تلدغه فيرتاح ويرتاحون !!
أقبلت العقرب على أحمد .. قام أخوه مبتعداً .. يرقبها من بعيد ..
وصلت إلى الرأس المريض .. مشت عليه .. ثم لدغته ..
ثم تحركت قليلاً فلدغت .. ثم تحركت إلى موضع آخر من الرأس فلدغت ..
وجعل القيح والصديد يسيل بغزارة من أنحاء رأسه ..
والأخ ينظر إليه مندهشاً ..!!
ثم مشت العقرب تخوض في هذا القيح والصديد .. حتى وصلت إلى الجدار فصعدت عليه .. وعادت من حيث أتت ..
دعا الأخ أباه وإخوته فأقبلوا عليه ..
فلم يزالوا يمسحون الدم والصديد .. حتى ذهب انتفاخ الرأس ..
وفتح الغلام عينيه ..ثم قام معهم ..( القصة ذكرها التنوخي في كتابه الفرج ) .
فكم من محنة في طيها منحة .. ورب صابر كانت عاقبة صبره الفرج ..
وأفضل العبادات انتظار الفرج ..
الأمر الذي يجعل العبد يتعلق قلبه بالله وحده ..
وهذا ملموس وملاحظ على أهل المرض أو المصائب ..
وخصوصاً إذا يئس المريض من الشفاء من جهة المخلوقين ..
وحصل له الإياس منهم .. وتعلق قلبه بالله وحده ..
وقال: يا رب .. ما بقي لهذا المرض إلا أنت .. فإنه يحصل له الشفاء بإذن الله ..
وهو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج ..
يرفعهم درجات
دخل رسول الله يوماً على عائشة .. فإذا هي قد عصبت رأسها بعصابة ..
وأخذت تئن من شدة الألم ..
فقال : ما بالك يا عائشة ؟
قالت : الحمى .. لا بارك الله فيها ..
فقال : لا تسبي الحمى فإنها تأكل خطايا ابن آدم كما تأكل النار الحطب ..(رواه مسلم)
فالله قد يبتلي بعض عباده بالأمراض ليرفعهم درجات ..
وقد يكون للعبد منزلة في الجنة ولم يبلغها بعمله ابتلاه الله بأنواع البلاء ليرفعه إليها ..
روى ابن حبان عنه قال : إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ..
وفي الأدب للبخاري عن أبي هريرة قال : ما من مرض يصيبني أحب إلى من الحمى .. لأنها تدخل في كل الأعضاء والمفاصل وعددها 360 مفصلاً
البطل ..
لم يكن أبو عبد الله يختلف كثيراًُ عن بقية أصدقائي .. لكنه – والله يشهد – من أحرصهم على الخير ..
له عدة نشاطات دعوية من أبرزها ما يقوم به أثناء عمله .. فهو يعمل مترجما في معهد الصم البكم ..
اتصل بي يوما وقال : ما رأيك أن أحضر إلى مسجدك اثنين من منسوبي معهد الصم لإلقاء كلمة على المصلين ..
تعجبت !! وقلت : صم يلقون كلمة على ناطقين ؟
قال : نعم .. وليكن مجيئنا يوم الأحد ..
انتظرت يوم الأحد بفارغ الصبر .. وجاء الموعد ..
وقفت عند باب المسجد أنتظر .. فإذا بأبي عبد الله يقبل بسيارته ..
وقف قريباً من الباب .. نزل ومعه رجلان .. أحدهما كان يمشي بجانبه ..
والثاني قد أمسكه أبو عبد الله يقوده بيده ..
نظرت إلى الأول فإذا هو أصم أبكم .. لا يسمع ولا يتكلم .. لكنه يرى ..
والثاني أصم .. أبكم .. أعمى .. لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى ..
مددت يدي وصافحت أبا عبد الله ..
كان الذي عن يمينه – وعلمت بعدها أن اسمه أحمد - ينظر إليّ مبتسماً .. فمددت يدي إليه مصافحاً ..
فقال لي أبو عبد الله - وأشار إلى الأعمى - :
سلم أيضاً على فايز .. قلت : السلام عليكم .. فايز ..
فقال أبو عبد الله : أمسك يده .. هو لا يسمعك ولا يراك ..
جعلت يدي في يده .. فشدني وهز يدي ..
دخل الجميع المسجد .. وبعد الصلاة جلس أبو عبد الله على الكرسي وعن يكينه أحمد .. وعن يساره فايز .. كان الناس ينظرون مندهشين .. لم يتعودوا أن يجلس على كرسي المحاضرات أصم ..التفت أبو عبد الله إلى أحمد وأشار إليه ..
فبدأ أحمد يشير بيديه .. والناس ينظرون .. لم يفهموا شيئاً ..
فأشرت إلى أبي عبد الله .. فاقترب إلى مكبر الصوت وقال :
أحمد يحكي لكم قصة هدايته .. ويقول لكم .. ولدت أصم .. ونشأت في جدة .. وكان أهلي يهملونني .. لا يلتفتون إليّ .. كنت أرى الناس يذهبون إلى المسجد .. ولا أدري لماذا ! أرى أبي أحياناً يفرش سجادته ويركع ويسجد .. ولا أدري ماذا يفعل ..
وإذا سألت أهلي عن شيء .. احتقروني ولم يجيبوني ..
ثم سكت أبو عبد الله والتفت إلى أحمد وأشار له ..
فواصل أحمد حديثه .. وأخذ يشير بيديه .. ثم تغير وجهه .. وكأنه تأثر ..
خفض أبو عبد الله رأسه ..ثم بكى أحمد .. وأجهش بالبكاء ..
تأثر كثير من الناس .. لا يدرون لماذا يبكي ..واصل حديثه وإشاراته بتأثر .. ثم توقف ..فقال أبو عبد الله : أحمد يحكي لكم الآن فترة التحول في حياته .. وكيف أنه عرف الله والصلاة بسبب شخص في الشارع عطف عليه وعلمه .. وكيف أنه لما بدأ يصلي شعر بقدر قربه من الله .. وتخيل الأجر العظيم لبلائه .. وكيف أنه ذاق حلاوة الإيمان ..
ومضى أبو عبد الله يحكي لنا بقية قصة أحمد ..
كان أكثر الناس مشدوداً متأثراً ..
لكني كنت منشغلاً .. أنظر إلى أحمد تارة .. وإلى فايز تارة أخرى .. وأقول في نفسي .. هاهو أحمد يرى ويعرف لغة الإشارة .. وأبو عبد الله يتفاهم معه بالإشارة .. ترى كيف سيتفاهم مع فايز .. وهو لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ..!!
انتهى أحمد من كلمته .. ومضى يمسح بقايا دموعه ..
التفت أبو عبد الله إلى فايز ..
قلت في نفسي : هه ؟؟ ماذا سيفعل ؟!!
ضرب أبو عبد الله بأصابعه على ركبة فايز .. فانطلق فايز كالسهم .. وألقى كلمة مؤثرة ..تدري كيف ألقاها ؟
بالكلام ؟ كلا .. فهو أبكم .. لا يتكلم ..
بالإشارة ؟ كلا .. فهو أعمى .. لم يتعلم لغة الإشارة ..
ألقى الكلمة بـ ( اللمس ) .. نعم باللمس .. يجعل أبو عبد الله ( المترجم ) يده بين يدي فايز .. فيلمسه فايز لمسات معينة .. يفهم منها المترجم مراده .. ثم يمضي يحكي لنا ما فهمه من فايز .. وقد يستغرق ذلك ربع ساعة ..
وفايز ساكن هادئ لا يدري هل انتهى المترجم أم لا .. لأنه لا يسمع ولا يرى ..
فإذا انتهى المترجم من كلامه .. ضرب ركبة فايز .. فيمد فايز يديه ..
فيضع المترجم يده بين يديه .. ثم يلمسه فايز للمسات أخر ..
ظل الناس يتنقلون بأعينهم بين فايز والمترجم .. بين عجب تارة .. وإعجاب أخرى ..
وجعل فايز يحث الناس على التوبة .. كان أحياناً يمسك أذنيه .. وأحياناً لسانه .. وأحياناً يضع كفيه على عينيه ..
فإذا هو يأمر الناس بحفظ الأسماع والأبصار عن الحرام ..
كنت أنظر إلى الناس .. فأرى بعضهم يتمتم : سبحان الله .. وبعضهم يهمس إلى الذي بجانبه .. وبعضهم يتابع بشغف .. وبعضهم يبكي ..
أما أنا فقد ذهبت بعيييييداً ..
أخذت أقارن بين قدراته وقدراتهم .. ثم أقارن بين خدمته للدين وخدمتهم ..
الهم الذي يحمله رجل أعمى أصم أبكم .. لعله يعدل الهم الذي يحمله هؤلاء جميعاً ..
والناس ألف منهم كواحد ** وواحد كالألف إن أمر عنا
رجل محدود القدرات .. لكنه يحترق في سبيل خدمة هذا الدين .. يشعر أنه جندي من جنود الإسلام .. مسئول عن كل عاص ومقصر ..
كان يحرك يديه بحرقة .. وكأنه يقول يا تارك الصلاة إلى متى ..؟ يا مطلق البصر في الحرام إلى متى ..؟ يا واقعاً في الفواحش ؟ يا آكلاً للحرام ؟ بل يا واقعاً في الشرك ؟
كلكم إلى متى .. أما يكفي حرب الأعداء لديننا .. فتحاربونه أنتم أيضاً !!
كان المسكين يتلون وجهه ويعتصر ليستطيع إخراج ما في صدره ..
تأثر الناس كثيراً .. لم ألتفت إليهم .. لكني سمعت بكاء وتسبيحات ..
انتهى فايز من كلمته .. وقام .. يمسك ابو عبد الله بيده ..
تزاحم الناس عليه يسلمون ..
كنت أراه يسلم على الناس .. وأحس أنه يشعر أن الناس عنده سواسيه ..
يسلم على الجميع .. لا يفرق بين ملك ومملوك .. ورئيس ومرؤوس ..وأمير ومأمور ..
يسلم عليه الأغنياء والفقراء .. والشرفاء والوضعاء .. والجميع عنده سواء ..
كنت أقول في نفسي ليت بعض النفعيين مثلك يا فايز ..
أخذ أبو عبد الله بيد فايز .. ومضى به خارجاً من المسجد ..
أخذت أمشي بجانبهما .. وهما متوجهان للسيارة ..
والمترجم وفايز يتمازحان في سعادة غامرة ..
آآآه ما أحقر الدنيا .. كم من أحد لم يصب بربع مصابك يا فايز ولم يستطع أن ينتصر على الضيق والحزن ..
أين أصحاب الأمراض المزمنة .. فشل كلوي .. شلل .. جلطات .. سكري .. إعاقات .. لماذا لا يستمتعون بحياتهم .. ويتكيفون مع واقعهم ..
ما أجمل أن يبتلي الله عبده ثم ينظر إلى قلبه فيراه شاكراً راضياً محتسباً ..
مرت الأيام .. ولا تزال صورة فايز مرسومة أمام ناظري ..
التقيت بأبي عبد الله بعدها .. فسألته عن فايز ..
فقال : آآآه .. هذا الرجل الأعمى له أعاجيب .. قلت : كيف ..
قال : في حياتي لم أر أحرص على الصلاة من فايز ..
فايز من منطقة خارج الرياض .. وقد جعلنا له غرفة صغيرة في معهد الصم يسكن فيها .. ووكلنا أحد العمال يهتم به .. يطبخ طعامه .. يوقظه للصلاة ..
كان العامل يأتي إليه عند كل صلاة .. يفتح الباب .. يحركه ..
فيقوم فايز ويتوضأ .. وينتظر في الأسفل عند باب المعهد ليأخذ العامل بيده إلى الصلاة ..
أحياناً يتأخر العامل .. فيضرب فايز الباب يستعجله .. فإذا تأخر العامل وخاف فايز فوات الصلاة مشى إلى المسجد .. وبينه وبين المسجد شارعان متواجهان .. يمشي وهو يلوح بيديه لأجل أن يراه أصحاب السيارات – إن كان هناك سيارات –
وكم من سيارات تصادمت بسببه .. وهو لا يدري عنهم ..
فايز له أعاجيب ..
في إحدى المرات جئت إلى المعهد عصراً فإذا مجموعة من الصم ينتظروني عند باب المعهد .. ويشيرون بأن فايز عنده مشكلة ..
أقبلت إلى فايز .. فلما رأيته فإذا هو غضباااان .. قد ألقى غترته جانباً .. ويشير بيديه ..والصم لا يفهونه ..
فلما وضعت يدي في يده .. عرفني .. فشد يدي .. وجعل يلمسني لمسات معينة .. ثم لمسته مثلها .. وسكن غضبه ..تدري ما الذي أغضبه ؟!
في فجر ذلك اليوم .. فاتته الصلاة مع الجماعة ..
وكان يقول : افصلوا هذا العامل .. استبلوه بغيره ..
ويدافع عبراته .. وأنا أسكن غضبه ..
فرحم الله فايز .. ورحمنا ..
الهم الكبير
ذهبت إلى دولة السويد في شهر رمضان ..
كنت في رحلة دعوية لإلقاء بعض المحاضرات ..
دعاني بعض الأخوة في أحد المراكز الإسلامية للقاء عدد من الشباب السويديين المسلمين ..
دخلت المركز بعد الظهر .. فإذا هم مجتمعون في حلقة ينتظرون ..
كانوا جالسين على الأرض ..
لفت نظري غلام لم يتعدَّ عمره خمس عشرة سنة .. اسمه محمد .. جنسيته سويدي .. لكنه من أصل صومالي ..
رأيته مقعداً على كرسي متحرك ..
وقد ربطت يداه في جانبي الكرسي لأنها تنتفض بشكل دائم ولا يملك التحكم فيها ..
وهو إلى ذلك كله لا يتكلم .. ورأسه ينتفض أيضاً طوال الوقت ..
أشفقت عليه لما رأيته ..
اقتربتُ منه .. فهشّ في وجهي وبدأ يتبسم وينظر إليَّ ويودّ لو كان يستطيع أن يقوم ..
سلمتُ عليه فإذا هو لا يفهم العربية لكنه يتكلم الإنجليزية والسويدية بطلاقة .. إضافة إلى اللغة الصومالية ..
بدأت أحدّثه عن المرض وفضله وعِظم أجر المريض .. وهو يهزّ رأسه موافقاً ..
لاحظتُ أن أمامه لوحاً صغيراً قد علّق عليه ورقة فيها مربعات صغيرة وفي كل مربع جملة مفيدة : شكراً .. أنا جائع .. لا أستطيع .. اتصل بصديقي .. الخ ..
فعجبتُ من هذه الورقة .. فأخبرني أحد الحاضرين أن هذا الغلام إذا أراد الكلام ركبوا على رأسه حلقة دائرية يمتدّ منها عصا صغيرة فيحرك رأسه بين هذه المربعات حتى يضع طرف العصا على المربع المطلوب فيفهمون منه ما يريد ..!!
وهذه هي الطريقة الوحيدة للتفاهم معه .. فهو لا يتكلم .. ولا يتحكم بحركة يديه ..
تكلمت معه عن فضل الله علينا بهذا الدين .. وأن المرء إذا وفق للإسلام فلا عليه ما فاته من الدنيا ..
فاكتشفتُ أن محمداً هذا من أكبر الدعاة .. كيف !!
أنا أخبرك بذلك :
وزارة الشئون الاجتماعية السويدية قد خصصت له رجلين موظفَين يأتيان لخدمته في الصباح .. واثنين يأتيانه في المساء ..
فإذا جاءه رجل غير مُسلم .. طلب منه عن طريق الإشارة على هذه الورقة أن يتصل بصديقه فلان ..
فإذا اتصل هذا الموظف بالصديق طلب منه محمد أن يسأل صديقه : ما هو الإسلام ؟
فيجيب الصديق على السؤال ..
فيحفظه الموظف ثم يشرحه لمحمد ..
ثم يطلب محمد من الموظف أن يسأل الصديق عن الفرق بين الإسلام والنصرانية ؟ ..
فيجيب عن ذلك ..
ثم يطلب منه أن يسأل عن حال المسلم وغير المسلم يوم القيامة ؟
فيجيب الصديق ويشرح الموظف ..
حتى إذا فهم الموظف الكلام كله أشار له محمد إلى درج المكتب فيفتحه ..
فيجد فيه كتباً في الدعوة إلى الإسلام .. فيأخذ منها ويقرأ ..
وقد تأثر بسبب ذلك أشخاص كثيرون ..
فلله درُّ محمد ما أكبر همّته .. لم يقعده المرض عن الدعوة .. بل ولا عن البشاشة والسرور ..
ارضَ بما قسم الله لك تكن مؤمناً ..
واعلم بأن كل إنسان محاسب عن القدرات التي أعطاه الله إياها .. السمع .. البصر .. اللسان .. العقل ..
وقد يتقبل الناس النصيحة من المريض المبتلى أكثر من تقبلهم لها من الصحيح المعافى ..
فلماذا لا تكون داعية وأنت بهذا الحال ؟ لست عاجزاً إن شاء الله ..
وقد تسألني وتقول :من أدعو ؟!
فأقول : أدعُ الأطباء .. الممرضين .. المرضى .. الزائرين ..
كن رجلاً مباركاً .. تنصح هذا في الاهتمام بالصلاة ..
وذاك في حفظ البصر والفرج .. والثالث في الاستفادة من وقته .. والرابع .. وهكذا .
خالد الأبكم
قال د.عبد العزيز :
كانت عيادتي ذلك اليوم مزدحمة بالمرضى ..
أكثرهم جاءوا من مناطق بعيدة وقرى نائية .. واضح هذا من مظاهرهم ولبسهم ..
جعلوا يدخلون العيادة بالترتيب .. أمراض متفاوتة .. وظروف متنوعة ..
دخل خالد .. طفل في العاشرة من عمره .. مع اثنين من المرافقين ..
كان قد راجعني مراراً .. مع رجل كبير كنت أظنه أباه .. ليتابع ضعف سمعه الذي يعاني منه منذ ولادته ..
جلس الثلاثة ..
فعرفت أن أحد المرافقين هو والده ..
والآخر الذي تعودت أن أراه معه .. وكان يتحدث طوال الوقت .. هو خاله الذي يهتم به ويتابع علاجه من سنوات ..
جلس الخال يتحدث بإسهاب عن خالد وكيف تحسن سمعه كثيراً مع السماعات التي ركبت في الفترة الأخيرة ..
كان الخال يتحدث بشفقة .. وكأن المرض فيه هو .. وكان يردد : هل تصدق يا دكتور أنه بهذه السماعات .. صار سمعه في المستوى الطبيعي بفضل الله تعالى ..
كان خاله سعيداً بهذا الأمر .. وكيف أن المعلمين في المدرسة التي يدرس فيها ( الخاصة بالصم والبكم ) متشجعون جداً لمستوى تحسن خالد الدراسي ...
قال الخال :
يا دكتور .. وقد جئتك هذه المرة بأبي خالد .. كي تصف له السماعة الملائمة لعله أن يتحسن سمعه هو الآخر ...
قلت : أبوه أيضاً لا يسمع ؟ قال : نعم .. منذ سنين طويلة ..
التفتُ إلى خالد .. سألته : كيف حالك ؟ أجابني بسرعة : الحمد لله .. بخير ..
قلت :كيف هي المدرسة ؟ فقال : جيدة ..
كان يسمع ويتكلم .. لكن نطقه ثقيل لا يزال يحتاج إلى تدريب وتقويم ..
لكن مستوى ذكائه يتماشى مع سنه الطبيعي ..
سألت خاله : ما دام سمع خالد في تحسن .. ويحتاج إلى كثرة كلام ليستقيم نطقه .. فأقترح أن تسرعوا بنقله إلى مدرسة عادية .. ليتعايش مع وضعه الجديد ..
سكت خاله .. وخفض رأسه .. وبدا وجهه حزيناً وكأني نكأت جروحاً ..
أمارات تعجب كثيرة أراها على وجهه .. وكأنه لا يصدق أن الابن الصغير بات شخصاً عادياً .. له الحق في الحياة الطبيعية مثل غيره ..
قال : يجبي أن يبقى في مدرسة الصم البكم ..
قلت : لـمَ ؟ ما المشكلة معكم ؟ قال الخال :
أسرة خالد تسكن في قرية بعيدة ..
ولا أقدر أن أضعه في مدرسة عادية .. لأن خالد لا بد أن يحافظ على قدرته على التعامل مع الصم .. حتى يعرف كيف يحادث أهله !!
قلت : يحادث أهله ؟!! قال : نعم .. كل أعضاء الأسرة لا يسمعون .. الأب .. والأولاد ..
قلت : وخالد فقط الذي يتابع معنا العلاج ؟ قال : نعم ..
تعلم يا دكتور أنه من الصعب أن نترك القرية كلنا معاً في آن واحد .. وخالد أمره مهم ..
قلت : كم هي أعمار أخواته ؟ قال : أخته الكبرى تجاوزت الخامسة عشر تقريباً .. والثانية عمرها حوالي ثمانية أعوام ..
قلت له بعصبية : والآن جئتني بوالده المسن لكي نعالج مشكلة ضعف سمعه .. وتركت الأختين في الدار ..
وهما في بداية حياتهما ..؟! الأولى فقدت فرصتها في التعليم ...وربما في بناء أسرة أيضاً ... والثانية تريد أن تفقدها فرصتها هي الأخرى ؟
أليس هذا حراماً ؟! بل وتصر على أن يظل خالد في هذا الجو رغماً عن إرادته ..!!
بدأ الخال يدافع عن نفسه .. وأن الأمر ليس تمييزاً بقدر ما هو عدم قدرة على أن يأتي بهم أجمعين ؟
جلست فترة طويلة أناقش هذا الخال بأن الأمر مسئولية في عاتقه .. فكما يقدر على إحضار خالد في كل المواعيد ويعتني بها فمن حق أخواته أيضا أن يعشن حياة صحيحة ..
وعدني الخال خيراً .. وشكر لي اهتمامي .. ومضى خارجاً ..
وقف عند الباب وقال :
أعدك ...أن أحضرهم كلهم ...في سيارتي الصغيرة .. حتى لو وضعتهم فوق بعضهم البعض .. تبسمت في داخلي ..
ليت كل الناس يحملون في داخلهم مثل هذا القلب الأبيض ..
ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته .. والله في عون العبد ما مادام العبد في عون أخيه ..
بين الطبيب والمريضة
يحق لنا جميعاً أن نتساءل !! متى يعالج الطبيب المرأة ؟
والجواب أن : الأصل أن الطبيبة هي التي تعالج بنات جنسها ..
لكن إذا لم يوجد طبيبة .. ووجدت الحاجة والضرورة فلا بأس أن يتولى العلاج طبيب رجل ..
فيكشف على المرأة المريضة بقدر الحاجة .. فإذا كان الألم في ساقها لم يجز أن ينظر إلى غيره .. وكذلك لو كان الألم في يدها فينظر إلى يدها فقط لعلاجها .. دون أن ينظر إلى وجهها وشعرها .. لقول الله تعالى ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ) ..
ولا يخلو الطبيب بالمرأة عند علاجها .. بل يبقى معها محرمها .. زوجها أو أبوها ..
فإن لم يكن محرم فتبقى الممرضة ..
ومن الأعاجيب أن أحدهم أدخل زوجته على طبيب الأسنان ، وجلس ينتظر بالخارج ، فقيل له : لماذا لا تدخل مع زوجتك ؟ فقال : حتى تأخذ راحتها !! ( لا تعليق !! ) ...